باص اخضر يغادر حلب (مقتطفات)

تأليف: جان دوست

 

 

في ذلك اليوم، أشارت التقاويم المعلّقة على الجدران كلها، وكذلك المثبتة في أجهزة الهواتف النّقّالة الذكية وساعات اليد إلى العشرة صباحاً من منتصف الشهر الأخير سنة 2016. وحدها تقاويم جدران الأبنية المهدّمة كانت تشير إلى أيّام القصف، فيما أشارت ساعات اليد في معاصم القتلى تحت الأنقاض إلى لحظات الدمار الرهيرة التي طالت أحياء كثيرة في حلب وغيرها من المُدُن المفجوعة. كانت قد مضت على بداية الحرب في تلك الجمعة الباردة خمس سنوات عجاف وسبعة أشهر أشدّ عَجَفاً، سالت فيها الجماء مدراراً دون أن يتمكّن مجلس الأمن المخصيّ بمشرط الفيتو من صُنع ضماد لإيقاف النزيف.

(…)

كان الناس ينسِلون من الأحياء المهدّمة المقفرة جماعات وآحاداً، وهم يبحثون عن أيّة وسيلة، تقلّهم إلى أيّ مكان. كان المهمّ عندهم أن يخرجوا من أحيائهم التي تحوّلت في الأيّام الأخيرة إلى جحيم مقيم، ويغادروها إلى مكان أقلّ جحيمية، ألى مكان، يكون فيه الموت أخفض كلفة على الأقلّ. هذا أقصى ما صار يتمنّاه الناس في شرق حلب تلك الأيّام. لقد نسوا ترف تمنّي المستحيل السوري الذي صار يتمثّل في سماء بلا طائرات، تتسلّى بهندسة الخراب ورسم الأنقاض، والحلم بشوارع، لا تسقط فيها قذائف، تفجّر الأبنية، وتُطبِقُها على رؤوس ساكنيها. علم أهل حلب أن سقف التّمنّيات ينخفض في الحروب، بل يهبط السقف على التّمنّيات ذاتها حتّى لا يبقى منها سوى تمنّي الموت بسرعة بدل العيش في رعب، لا يمكن تحمّله.

ناس كثيرون من مختلف الأحياء مثل كرم القاطرجي والفردوس والسّكّريّ وطريق الباب الكلاسة وباب النيرت وبستان القصر والميَسَّر والشَّعَّار وصلاح الدِّين والليرامون وغيرها من الأحياء ودّعوا بيوتهم أو البيوت التي هجرها أصحابها قلبهم، فسكنوها، تقاطروا ألى نقطة تجمُّع الحافلات الخضراء، وهم يحملون على رؤوسهم أكياساً، لا يعرفون ماذا وضعوا فيها من هول الموقف وشدّة الذهول. أطفال صغار كانوا يركضون خلف أهاليهم، يسقطون على الأرض، ثمّ يقفون على أقجامهم الباردة، ويستأنفون الركض، وهم يشدّون بأيديهم المرتجفة برداً ورعباً على ما يحملونه دون أن يبكوا أو يطلبوا العون من آ’بائهم الذين يتقدّمونهم، ولا يلتفتون إليهم.

تعلّم الأطفال في السنوات السّتّ العجاف أن الحرب لا ترحم الضعفاء. أدرك الأطفال أن البقاء على قيد الحياة يتطلّب السَّيْر بلامبالاة، بموازاة صنوها النقيض، وهو الموت.

(…)

الحروب عمياء”. فكّر (ابو ليلى) وهم يتمعّن في وجهها الصارم الذي يشي بقسوة ما عاشتْه من أيّام. رأى فيها شبيهة حفيدته ميسون”