تفصيل ثانوي (مقتطفات)

تأليف: عدنية شبلي

على فكرة، أتمنَّى أنّني لم أُسبِّب أيّ إرباك حين ذكرتُ الموقف مع الجنديّ أو الحاجز، أو حين اُفصح عن أنَّنا نحيا هنا تحت الاحتلال. أصوات إطلاق الرصاص وصفّارات الدوريّات العسكريّة، وأحيانًا المروحيّات والطائرات الحربيّة والقصف، تليها صفّارات سيَّارات الإسعاف، ليست فقط جميعها تسبق نشرات الأخبار العاجلة، بل وتزاحم نباح الكلب في أن تكون جزءًا من صوت الفضاء. والوضع على هذا الحال منذ وقت طويل جدَّا، بحيث إنَّه لم يبقَ هنالك الكثير ممَّن هم على قيد الحياة، قادرين على تذكُّر التفاصيل الصغيرة المتعلِّقة بشكل الحياة الذي كان شائدًا قبل ذلك، كتفصيل الخسَّة المخمِّجة في سوق الخضار المغلق مثلاُ.

(…)

بالطبع، قد تبدو هذه نرجسيَّة خالصة، حقيقة أنَّ ما شدّني إلى تلك الحادثة وجعلها تستحوذني هو مثل هذا التفصيل الثانويّ، مقارنة مع تفاصيلها الرئيسيَّة الأخرى التي يمكن وصفها بالمفجعة.

(…)

ومرَّة أخرى، مجموعة من الجنود يأسرون فتاة، يغتصبونها، ثم يقتلونها في ما سيصادف بعد ربع قرن يوم مولدي؛ هذا التفصيل الثانويّ، الذي لا يمكن إلَّا أن يستهين به الآخرون، سيلازمني إلى الأبد رغمًا عنِّي ومهما حاولت تناسيه، حيث ستبقى حقيقته تعبث بي بلا انقطاع، لِما فيّ من ضعف وهشاشة، تماثل هشاشة الأشجار المنتصبة أمامي خلف زجاج النافذة.

(…)

أسأله مجدّدًا إن كان بإمكاني كفلسطينيَّة دخول هذه المتاحف والأرشيفات؟ فيجيب قبل أن يضع سمَّاعة الهاتف، أنَّه لا يجد سببَا ما يكمنه أن يحول دون ذلك. وأنا لا أجد سببًا ما يمكنه أن يحول دون ذلك أيضًا، عدا بطاقة هويَّتي. موقع الحادثة والمتاحف والأرشيفات التي توثِّقها، جميعها تقع، بحسب تقسيم الجيش للبلاد، في أماكن هي خارج نطاق منطقة «ج»، وأبعد منها بكثير، ليس بعيدًا من الحدود مع مصر؛ بينما أطول رحلة يمكنني الإتيان عليها ببطاقتي الخضراء التي تعلن بأنَّني من منطقة «أ» هي من بيتي إلى عملي الجديد. مع أنَّه، قانونيًّا، يمكن لأيّ فرد من منطقة «أ» الذهاب إلى منطقة «ب»، إن لم يكن هنالك أسباب سياسيَّة وعسكريَّة استثنائيَّة تحول دون ذلك.  لكنْ لكثرتها، باتت هذه الأسباب الاستثنائيَّة، القاعدة، بحيث لم يعد يخطر ببال الكثير ممّن هم من منطقة «أ» الوصول إلى منطقة «ب». أنا شخصيًّا، في السنوات الأخيرة، لم أصل حتى حاجز قلنديا الفاصل بين منطقة «أ» ومنطقة «ب»، فكيف لي أن أفكِّر بالذهاب إلى مكان هو من البعد لدرجة يوشك معها أن يكون في منطقة «د». بل حتى أهل منطقة «ب» لا يمكنهم ذلك، وربَّما «ج»، وإن كانوا من أهل القدس، فحال نبس أيّ من هؤلاء بكلمة بالعربيَّة خارج مناطق سكناهم، يتحوّل وجودهم إلى تهديد أمنيّ كبير، في حين مسموح لهم بالطبع، كما هو الأمر بالنسبة لسكّان منطقة «ب»، التواجد في منطقة «أ»، والتي يُقْبِلون عليها باستمرار، ويقطنون فيها أحيانًا، بالرَّغم من أنَّ هذه المنطقة باتت أقرب ما تكون إلى السجن.